تضم نقائش وليلي العديد من المواضيع التي تهم علاقة روما ببعض قبائل الطنجية وبالبكوات خاصة، ومن ضمنها نقيشة تحمل نصا مؤرخا بـ13 أكتوبر 180م يوضح أن من بين مهام الإدارة الرومانية تعيين الزعماء البكوات( )، ويؤرخ بدقة لفترة ولاية بروتيوس برايسانس (C. Bruttius Praesens)، وكنتيليوس كُوندينوس (S. Quintilius condianus)، لاسيما وأن عبارة Princeps constititus gentis Baquatium تشير –حسب فريزول( )- إلى أن العنصر المهم هو اسم أمير البكوات والعبارة الدالة على سلطته، وأن الإدارة الرومانية هي التي نصبت الزعيم كنَرطا (Canarta) البكواتي. وقد تم العثور بروما على شاهد قبر كتبت عليه العبارة التالية:
«D.M.S. Memoris / fili/ Aureli / canarthae/ principis gentis Baquatium qui vixit ann(is) XVI.»
"الى آلهة الموت، وتخليدا لذكرى ابن أورليوس كنارطا زعيم قبيلة البكوات الذي عاش ستة عشرة سنة."
فالاسم الأول لكنرتا (Canarta) قد يكون هو نفسه في شاهد القبر، حسب فريزول. وقد يكون كنرتا حصل على حق المواطنة الرومانية من الإمبراطور كومودوس(( .
وقد تزايد الاهتمام بدراسة العلاقات السياسية والعسكرية بين الرومان والقبائل المورية منذ الوجود الروماني، واعتمد المهتمون على قراءة النقائش المشيرة لذلك، مثل نقائش وليلي وشرشال ولمبيز وتبازا. وحسب البعض فقد بلغ عدد النقائش، التي عثر عليها بشمال إفريقيا، ما يقارب الخمسين ألف نقيشة، كان نصيب الموريطانيتين منها ضئيلا جدا؛ بل ونلاحظ تقلص هذا العدد بهما كلما اتجهنا نحو الغرب، لنجد أن نصيب موريطانيا الطنجية لا يتجاوز الألف( ) من ضمن العدد المذكور آنفا، ويتطرق أغلبها لمواضيع سياسية.
إن أهمية هذه النصوص قيمة ومفيدة جدا، وذلك لما تكشف عنه من أسماء لشخصيات محلية، مثل زعماء البكوات والزﮔـرنسيين.
جدول (رقم 2 )
المعاهدات المبرمة بين روما وزعماء القيائل الأمازيغية
قادة قبائل الماكنيت والبكوات زمن المعاهدة فترة الإمبراطور عدد المعاهدات
ايليوس توكودا (البكوات) 139-140م انطونينوس
أوكمتيو( الماكنيت والبكوات) 173-175م ماركوس اورليوس خمس معاهدات
اورليوس كنارطا 180م كومودوس
اوريت 180-200م " "
ايليلاسن 200م سبتموس سيفيروس معاهدة واحدة
سيبمازين 245م فيليبوس.
يوليوس ماتيف 277م بروبوس معاهدتان
يوليوس نوفوزي 280م " "
يوليوس ميرزي 280م " "
- الوزن السياسي والعسكري لقبيلة البكوات
تم العثور على إحدى عشرة نقيشة تشير إلى البكوات، وجد تسع منها بوليلي، إضافة إلى نصين ينتميان إلى المدينة نفسها، يشيران إلى اسم القبيلة، رغم ما يتخللها من ثغرات(*). وقد شكل البكوات قوة مهمة في موريطانيا الطنجية، وتشير أغلب النصوص إلى أهمية التأثير والعلاقات المتبادلة بين هؤلاء من جهة، وبين الولاة الرومان من جهة ثانية، وهو ما يعني أنه كانت هناك علاقات بين روما وجيرانها نصف المستقلين، وهو أمر جديد بالطنجية، ويفسر وجود نوع من "الحماية" الممارسة على البكوات.
فقد كان زعماء البكوات يتوصلون بقرارات تنصيبهم من الولاة، كما يفسر ذلك النص سابق الذكر، وهذا لا يمنع هذه القبيلة من استغلال فترات القلاقل ومشاكل السلطة الرومانية للثورة عليها. غير أن الرومان كانوا ينجحون في التخفيف من حدة الثورات، وذلك إما عن طريق التفاوض، حسب ما تفيد به النصوص الإبغرافية، أو بواسطة التحالف مع قبائل محلية ثائرة.
– التحالفات بين القبائل المورية
زاد الاستغلال المفرط، الذي زاوله الرومان بالبلاد، من نقمة القبائل المورية عليهم، فقد كانت تلك القبائل تستغل الأزمات السياسية والتوترات الخارجية، التي كانت تعرفها ضواحي الإمبراطورية الرومانية أحيانا، فتتكتل وتشكل قوة موحدة ضدها.
وهناك نص يرجع لفترة حكم ماركوس أورليوس (161-180م) حوالي 173-175م يشير إلى التحالف الذي جمع البكوات والماكينيت( ). وقد تعرفنا على هذه القبيلة من خلال عدة نصوص، لاسيما تلك التي ذكرها بطوليمايوس وديون كاسيوس او التي وردت في الحديث عن مسلك انطونينوس.
ويشير نص آخر إلى اتحاد البكوات والبافار سنة 221م، ويتضح منه أن البكوات هم الذين شكلوا العنصر المهيمن، وأنهم كانوا يمثلون مصدر الثقل السياسي بالمنطقة( ). هذا ولا نعلم الكثير عن نشاط البكوات بين حكم سيفروس ألكسندر (221-235م) وسنة 278م التي شهدت أول معاهدة مع بّروبوس (Probus)، أي خلال إحدى أكثر مراحل الإمبراطورية توترا، وبموريطانيا بصفة خاصة.
والجدير بالذكر أن هذه الثورات، التي حدت منها معاهدة سنة 241م، لم تكن من الثورات ذات الطابع المهدد لمصير الوجود الروماني. لكن فريزول( ) قال بهذا الصدد: إن "التزامن الذي استطعْنا استنتاجه وظروف تغيير حاكم مثل (M.Ulpius.Victor) يجعلنا نقدر مدى حدود مدة السلم الروماني بموريطانيا الطنجية أواسط القرن 3 الميلادي."
فقد تم توقيع معاهدتين خلال فترة حكم بروبوس، كانت الأولى سنة 277م، والثانية سنة 280م.
"… يقطن الماكينيت بموريطانيا العليا، وكثير ممن ينظمون حملات عسكرية إلى تلك الجهات يصلون إلى محاذاة الأطلس."
المفاوضات ومعاهدات السلام
تجسدت مفاوضات السلام في عدة معاهدات، خمس منها معروفة بين الرومان والبكوات في عهد ماركوس أورليوس( )، وأخرى تعود، حسب توفنو، للعهد نفسه، لكن كَرْكوبّينو( ) يرجعها إلى عهد أنطونينوس، ثم واحدة في عهد سيفروس ألكسندر، ومعاهدتان تعودان لعهد بّروبوس. وتشير نقيشة، عثر عليها في الحي الشمالي-الشرقي لوليلي، إلى معاهدة سلام بين الرومان والبكوات، نتيجة للمواجهات العسكرية التي دارت بينهما بمحاذاة معسكر عين الشقور، وهو دليل على خطر البكوات.
ويتضمن النص سبعة أسطر، لكنه غير تام، وقد أعاد فريزول( ) ترميمه، فأصبح على الشكل التالي:
I.O.M./ ceterisque diis deabusque i[mmortalibus Pro salute et incolumitte]/ et victoria Imp(eratoris) caes (aris)[ M(arci) Antonii Gordiani Pii Felicis Aug (usti) M.Ulpius Vic[ tor] u(ir) e(gregius) proc(urator) eiu[s pro leg (ato) colloquium cum..] Pricipe g[enti]s Baquatiu[m Pacis firmandae gratia habuit aramque] consecrauit XVII Ka[lendas..]\ imp(eratore] domino n(ostro) Gord[iano et Aviola( ?) co(n) s(ulibus)]
"إلى الإله يوبتير الأفضل والأكبر والى باقي الأرباب والربات الخالدة ، من أجل سلامة ونصر الإمبراطور قيصر ماركوس أنطونينوس كورديانوس، الورع، المحظوظ، المقدس، تباحث ماركوس أولبيوس فكطور، الرجل المتميز، وممثل الإمبراطور في الولاية مع زعيم قبيلة البكوات لتأكيد السلام وأقيم نصب لتخليد ذلك في الثامن عشر من شهر...وإبان قنصلية سيدنا الإمبراطور كورديانوس وقنصلية أفيولا."
إن هذا النص، بعد ترميمه، أصبح من ثمانية أسطر وتام القراءة وهو يشير إلى المعاهدة المبرمة، حسب الأسماء والأحداث التي تشير إليها، وقد وقعت في عهد حكم كورديانوس الثالث، ما عدا تاريخ السطر الأول فإنه مشكوك في صحته، ويمكن تحديد زمنه بين السنة الأولى من حكم هذا الإمبراطور (239م) والسنة الثالثة (241م) منه.
ويمكن أن ننسب هذا النص الأول، الذي لحق السابق، حسب فريزول، إلى أولبيوس فيكتور (M. Ulpius.Victor)( ) وبالنسبة للنص الثاني فإنه يعود إلى سنة 241م المتزامنة مع حكم كورديانوس الثالث، الذي تقاسمه مع كلوديوس بُّومبيانوس.
ونلاحظ في النص الأول استمرار الروابط الدبلوماسية بين الحاكم الروماني والأمير البكواتي، كما يلاحظ الشيء نفسه بالنسبة لتقارب تواريخ المعاهدتين الدالتين على تواتر الانقلابات، وتبين أن السلم بموريطانيا الطنجية كان مؤقتا من قبل الإمبراطورية، نظرا للتوتر الداخلي بها (276-282م).
هكذا استغل البكوات، في عهد بروبوس، تقدم البرابرة نحو جنوب أوروبا وإضعافهم للإمبراطورية، مما جعل الرومان يحصنون حدودهم الجرمانية-الدانوبية ويستدعون بعض الفرق من إفريقيا التي كانت حينها أقل تعرضا للخطر، وهو ما حذا بالبكوات، من جهتهم، إلى المضاعفة من ثوراتهم ومن ثم إجبار روما على التفاوض الذي أفضى إلى توقيع معاهدات سلم، اتقاء لعواقب المواجهة مع كلا الجانبين (الجرمان) والموريين والنوميديين.
- معاهدات السلام بين البكوات وحكام الطنجية
تشير إحدى النقائش إلى عقد اتفاق بين زعيم البكوات ووالي الطنجية الروماني، الملقب بكليمانتيوس فالريوس ماركيليانوس (Clementius. Val. Marcellianus). وقد تم العثور على هذه النقيشة بمجال وليلي، ويتضمن نصها إشارة إلى تاريخ الاتفاقية الذي هو: 24 أكتوبر 277 م، كما يتضمن أيضا اسم زعيم البكوات، وهو: يوليوس ماتيف (Julius Matif)، الذي حمل لقب ملك (Rex)، والذي ظهر زعيما للمرة الأولى والأخيرة عند البكوات( ).
ويبدو أن يوليوس ماتيف لم يكن معترفا به ملكا للبكوات إلا بموافقة روما، وهو ما يُثبت أن العلاقات بين الرومان والبكوات كانت متميزة جدا، لأن قبيلة البكوات نعتت باسم (Foederata)، لأن روما لم تكن مترددة في توقيع تحالف(Foedus) مع زعيم البكوات، الذي أصبح حليفهم الرسمي، وربما ضد قبائل محلية جنوبية معادية للرومان مباشرة.
وتبدو في هذه النقيشة أيضا ملاحظة شكلية أخرى تتمثل في أن ذكر اسم الوالي الروماني سابق لاسم "ملك" البكوات، ولهذه الملاحظة الشكلية أهمية تاريخية وسياسية. وتطرح هذه الملاحظة تساؤلا عما إذا كان البكوات قد أرغموا الغزاة على قبول التفاوض، إن هذا إن صح قد يُفهم منه أن ميزان القوى انقلب لفائدتهم؛ غير أن أسلوب النص يعطي الانطباع بأن النصر كان في صالح الرومان.
أما فيما يتعلق بما إذا كانت العلاقات بين الجانبين حسنة؟ ولماذا شرّف الرومان زعيم البكوات بلقب ملك (Rex)؟ هل لاستمالتهم إلى جانبهم أم لسبب آخر كاتقاء خطرهم وثوراتهم، لاسيما وأن القرن الثالث كان قرن أزمات وانقلابات عسكرية بالنسبة للإمبراطورية؟
إن مثل هذه التساؤلات وغيرها تطرح إشكاليات أخرى حول التعامل الدبلوماسي المقرون بالسياسات المتبعة في الولايات النائية الخاضعة للإمبراطورية أو المناهضة لها، ثم مقارنتها بالسياسة الداخلية للإمبراطورية وموافقتها مع سياسة الولاة في كل من الموريطانيتين وبتيكا خاصة.
والمهم هو أن لغة الاتفاق بين الطرفين تغيرت كثيرا في القرن 3م إذا ما قورنت بالأسلوب الذي تمت به معاهدات القرنين الأول والثاني للميلاد.
- تجديد معاهدة سلام "نوفوزي بن ماتيف" سنة 280م
تؤرخ نقيشة معاهدة "نوفوزي بن ماتيف" بسنة 280م، وهي تأكيد للمعاهدة السابقة التي وقعها أبوه ماتيف مع والي موريطانيا الطنجية الروماني سنة 277م. ومع تولية نوفوزي بن ماتيف زعامة البكوات حرص الرومان على تجديد معاهدة السلام في 13 أبريل 280م. وتشير عبارات colloquium في النص بوضوح إلى المحادثات التي تمت قبل معاهدة 277م.
لكن يظهر أن المواجهة بين البكوات والرومان، وخلافا لما كان يحصل مع باقي القبائل المورية، انتهت باتفاق أو بتراض دون الإشارة في النص إلى المنتصر أو المنهزم. لكن يلاحظ أن ابن ماتيف لم يكن يحمل لقب "ملك"، وهو ما قد يُفسر بأن الرومان كانوا يخططون لإعادة فرض سلطتهم على المنطقة كما كان في أول الأمر.
وبالمقابل ، إذا كان البكوات قد أفلحوا، ولمدة طويلة، في مقاومة الهجمات الرومانية وألزموا خصومهم الرومان بتوقيع معاهدات سلام، فإن فريزول أشار إلى أن الأعداء الحقيقيين للرومان هم أولئك الذين لم يتفاوضوا معهم البتة، والذين لا يظهر اسمهم في النقائش إلا نادرا، ولكنه احتاط في هذه الحالة وأشار إلى أن ما هو مجهول هو الأهم والأخطر مقارنة مع ما هو معلوم( ).
وقد اتضح، مع معاهدة البكوات والرومان، أن هذه القبيلة كانت قدوة لمن خالفها لتهييء شروط السلم بالمنطقة.