تقديـم: مفهوم القبيلة
يختلف منظور كل باحث أو دارس لتركيبة القبيلة، فمنظور الأنتروبولوجي يختلف، حسب الأهداف المتوخاة من تعريفها، عن منظور السوسيولوجي أو المؤرخ أو الاقتصادي، كما يختلف عنصر التحليل هو الآخر حسب التوجهات، اقتصادية كانت أم جغرافية أم سياسية. ولهذا إذا أردنا فهم إشكالية القبيلة وبنيتها بإفريقيا الشمالية في عهود ما قبل الإسلام، وجب استحضار كل المعطيات المحيطة بعناصر وحدة قبيلة ما أو عناصر تشتتها.
فمفهوم القبيلة يعني –حسب الظروف والتسلسل التاريخي- اتفاقا ضمنيا لمجموعة بشرية ترتبط فيما بينها بروابط اثنية ومجالية، وذات مصالح مشتركة، وهي بذلك تكون تنظيما اجتماعيا متميزا، وغالبا ما تكون هذه المجموعةالبشرية منحدرة من أصل مشترك. ويكون هذا التنظيم الجماعي شاملا وملائما للمحيط السياسي والاقتصادي والجغرافي، وللفضاء الذي تعيش فيه الجماعة، وهي بذلك تتفق وقواعد تخص المستوى المعيشي ونظام السلطة المختار، وذلك لضمان التوازن الاجتماعي بين الأفراد والأسر والعائلات، وعلى ضوء هذا فإن مفهوم "قبيلة" يحتوي على مجموعة من المضامين المختلفة.( )
يعتبر احترام النظام الاجتماعي وتسلسل المهام أمرا مقدسا لدى أفراد كل قبيلة، فالمسيِّر محترم ومطاع، تسانده في إنجاز مهامه مجموعة أفراد من القبيلة ذاتها، لهم غيرة على تحقيق مصالحها وصيانة كرامتها، وهم يخضعون لمجموعة من القواعد تخص التسيير والتدبير والعلاقات مع الأفراد داخل المجموعة، أو العلاقات الخارجية مع القبائل الأخرى، لاسيما مع تلك المجاورة لها. وبذلك فإن للمنظومة المسيِّرة واجبات ومسؤوليات واضحة لضمان التوازن الداخلي على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك باستعمال مصطلحات خاصة لتصنيف مهام مسؤولي القبيلة ومسيّريها، و كذا توضيح تلك المهام.
وهكذا، ومن منطلق هذا المدخل المقتضب، نخلص إلى أن طبيعة المجتمع القبلي بشمال إفريقيا، المتميز بخصوصيات واضحة وضوابط مقننة ، كانت أداة للرفض والاصطدام والمواجهة الدائمة مع الوجود الروماني وسياسته في الانتشار، لاسيما إذا فهمنا هدف الرومان من تطبيق "قانون المواطنة الرومانية"، ومنحها بأريحية لبعض زعماء القبائل المورية والنوميدية طوال وجودهم بالمنطقة.
إن القبيلة إذن تمثل وحدة في التفكير والانتماء المجالي والعرقي والعقَدي، وترتبط بمنظومة مع قبيلة أو قبائل أخرى، بواسطة عقود أو معاهدات أو تحالفات، وكثيرا ما كان يحدث اندماج بين قبائل متجاورة، بالرغم من أنه كان لكل منها عصبيتها لأصولها وقناعااتها وأولويااتها وفروعهاالمتميزة.
وقد أسهبت المصادر الأدبية القديمة في تعداد أسماء القبائل بشمال إفريقيا القديم، ولعل السبب في ذلك هو اهتمام السلطة الرومانية بالمنطقة جغرافيا واقتصاديا، ورغبتها في الاستحواذ على الجهة واستغلالها.
إن القبيلة، بهذاالمفهوم إذن، ذات دلالة اجتماعية واقتصادية وسياسية، عرفت، في تاريخ لاحق، تشكيل هيئات سياسية منظمة تحت اسم "ممالك" خاضعة لنظام وتسيير له خصوصياته ومبادئه.
إن نواة الممالك "الأمازيغية" مصدره القبيلة وزعيمها، وهي مستندة إلى مبادئها ورجالاتها، ومستمدة قوتها من عصبيتها ومن التمسك بمجالها وإمكانياتها. غير أن "تأكيد" ج. دوزانج (J. Desanges)( )، في عدة مناسبات، على أن أصل تشكيل الممالك "الأمازيغية" تم "انطلاقا من نواة قبلية"، هو "تأكيد" لا يخلو من مقاصد ذات أبعاد إيديولوجية. و يُلمس الأمر نفسه في كتابات س. ﮔـزيل (St. GSELL)( )، الذي قال إن مملكة المسايسيل (Massaesyles) ارتكزت في نشوئها على أساس قبلي ومنظور إثني.
فالقبيلة صورة مصغرة منذ البداية للمملكة المحلية، وتحظى بكل العناصر المكونة لجهاز السلطة، من مجال عقاري إلى عناصر بشرية واعتقاد روحا ني، الشيء الذي يولد ما سماه أحد الباحثين بـ"عصبية الدولة".( )
لقد ساهم الرومان في تكوين وتوجيه تاريخ العالم القديم، وتميزت فترات حكمهم بخصائص متتوعة ومتفاوتة، حسب قوة أو ضعف حكامهم ، وأيضا حسب الأوضاع السياسية والاجتماعية بإيطاليا وبالمناطق المجاورة لها، وما ترتب عنها من حروب وإبرام معاهدات واتفاقيات.( )
وقد أسهب الباحثون المختصون في ابراز أهمية التراث الروماني وقيمته، فتعددت بذلك كتاباتهم السُّوسيولوجية، وأعمالهم الأركيولوجية، ودراساتهم القانونية. كما شكل هذا التراث مختلف أوجه السياسات الرومانية تجاه الشعوب والأمم التي خضعت لحكمهم وأصبح موضوع جدل حول المنطلقات والأهداف. فهناك من رفع من مكانة تراثهم ومن مستوى إسهاماتهم الحضارية، من تمدين الشعوب وتأطير الدول التي شكلت جزءا من إمبراطوريتهم( )، وغير ذلك، وهناك من يرى العكس، إذ يرفع من المستوى الحضاري للسكان المحليين.
القبيلة الرومانية بين العرف والقانونر
استقرت عشيرة كلاوديوس –التي تمثل القوة الرابعة ضمن قوات بقية العشائر الرومانية الأخرى- ما بين 25 يناير 44م و24 يناير 45م، أما استقرار باقي العشائر الأخرى فهي أقل ضبطا من الناحية الزمنية: لقد تقلد كلاود يوس منصب القنصل للمرة الثالثة على التوالي سنة 43م، وأصبح قنصلا للمرة الرابعة سنة 47م، ثم إمبراطورا (VIII Imperator) ثامنا ما بين 43 و45م.
وقد مكنه التقلب في هذه المناصب من إكتساب تجربة وحنكة في ميدان التسيير السياسي والإطلاع عن قرب بأحوال المجتمع الموري وأوضاعهم، ومن معرفة خصوصياته، وكيفية تطبيق القوانين الرومانية عليه، ثم طريقة استقطاب الأعيان من الموريين، بمنحهم حق المواطنة الرومانية والحصول على إمتيازات خاصة ،لهم ولذويهم.
Jتفيدنا نقيشة عثر عليها بأحد منازل الحي الشمالي الشرقي لمدينة وليلي أن أعيانها تقدموا بإسم بلديتهم بالشكر والعرفان للأمبراطور كلاوديوس على سخائه بمنحه لهم إمتيازات نجملها في ثلاث نقط.
1- حق المواطنة الرومانية المتزامنة
2 – نقل وليلي من مرتبة مدينة أجنبية إلى صف البلديات الرمانية، لاسيما وأن سنة 41م عرفت نهاية الحرب ضد إيدمون( ).
3 – وفاة كاليـكولا (كايوس قيصر).وموازاة مع ذلك ،كان كلاوديوس قد حصل، بموازاة مع ذلك، على شارات النصر (Triumphaliaحصل شارات النصر ornamenta)، وبذلك استفادت وليلي إداريا.
وتشير مصادر أدبية إلى أن أول حرب مباشِرة بموريطانيا، كانت هي الحرب التي أشعلها إيديمون في عهد كاليـﮕـولا، في حين نجد أن بلينيوس (Pline)( ) أخطأ حين أرجع تاريخ أولى المناوشات في هذه الحرب إلى عهد كلاوديوس، لكنه دقق في سبب الحرب، التي أشعلها إيدمون، ويتمثل في انتقام هذا الأخير لمعتوقه بطوليمايوس (Ptolemaus)( ). وعموما فقد أجمع المؤرخون على تاريخ واحد لنهاية هذه الحرب، وهو الذي حُدد بموت إيدمون. لكن تحديد تاريخ هذه الوفاة بقي محط خلاف:
فقد رأى د. فشْويك (D. FISHWICK)( ) أن إيديمون توفي وقضي على محاولته نهائيا قبل نهاية عهد كاليـكولا، أي قبل 24 يناير 41م. بينما أكد ديون كاسيوس (Dion Cassius) أن كلاوديوس لم يحرز على أي انتصار ضد أيديمون، بل إنه ادعى ذلك فقط، لأن موت إيدمون في عهد كلاوديوس كان أكبر مبرر لهذا التمييز.
ويُرجع البعض الآخر( ) موت إيدمون إلى سنة 41م، مع بداية عهد كلاوديوس( )، مستدلين في ذلك إلى ما ورد في نقيشة عثر عليها بروما( ). كما أن (M. Licinius Crassus Frugi) كان ممثلا لكلاوديوس بموريطانيا، وأنه أحرز، بهذه الصفة ، على شرف النصر بمعية الإمبراطور كلاوديوس بعد فوزه في حروبه بإفريقيا الشمالية. غير أننا لا نجزم أهو فوز على أيدمون أم إنتصار في حروب أخرى بنفس المنطقة ؟ ليكون ذلك دليلا آخر على عدم الاستقرار الروماني بهذا الإقليم .
ويظهر أن هناك تناقضا بيّنا بين نقيشة روما ونص ديون كاسيوس( )، الذي جاء فيه أن هذا الوكيل كانت له المهمة نفسها في عهد كاليـكولا، وبعدها في عهد كلاوديوس، في حين أنه قضى على ثورة أيدمون قبل موت كاليـكولا، واغتصب لاحقا هذا النصر الذي كان من الممكن أن ينعم به كاليـﮕولا، لو أن هذا الأمير لم يُقتل في 24 يناير 41م. وقد حالت ذاكرته الموشومة (Damnatio memoriae) دون إدراج اسمه ضمن لائحة نقيشة: M. Licinius Crassus Frugi.
1 - العلاقات بين القبائل الأمازيغية وروما
يشوب الغموض علاقات القبائل الأمازيغية بالسلطة الرومانية ،غموض كبير بسبب قلة ما عثر عليه من وثا ئق بالطنجية ، وحتى هذا القليل فإنه لا يخلو مع ذلك من ثغرات وتساؤلات، بل وتشوبه عدة شكوك لاسيما فيما يتعلق بمسألة تحديد فترات تدوين تلك الوثائق أو ضبط مناطق نفوذ كل من السلطة الرومانية والقبائل المحلية من خلالها، هذا ناهيك عن أن تلك الوثائق إنما تعبر عن وجهة نظر رومانية فقط، في حين تغيب وجهة النظر المحلية.
وفي كل الأحوال ،عرفت السلطة الرومانية صعوبات كثيرة ترتب عنها انعدام الاستقرار السياسي لها وانتشارالفوضى العسكرية في معظم أرجاء الإمبراطورية، بسبب المشاكل الداخلية العديدة، كما سنرى، وكذابسبب ضغط الغارات الجرمانية على الحدودالشمالية للأمبراطورية( )، والمقاومة التي عرفتها معظم المناطق التي كان الإحتلال الروماني ما يزال بها ،ولاسيما بالشمال حيث جرمانيا، وتراقيا، وبإفريقيا الشمالية عامة وموريطانيا الطنجية على الخصوص.
فكيف وصلت الإمبراطورية الرومانية إلى هذه الأزمة الشاملة، وما هي الطرق التي سلكتها لمعالجتها ؟ ثم ما هي انعكاسات ذلك على الإمبراطورية عامة و على الطنجية خاصة، ولاسيما على سياسة الرومنة بهذه الأخيرة ؟
أ – صعوبات تطبيق الرومنة بموريطانيا
تطرح شساعة رقعة الإمبراطورية ووضعها العسكري عدة مشاكل استراتيجية (حماية كل الحدود) وعسكرية، وهي مشاكل تتعلق بالتنظيم، وبالمنهجية المتبعة قصد دوام السيطرة وضمان التبعية التلقائية، لاسيما وأن سلطة الإمبراطورية كانت تضم شعوبا وأجناسا متفاوتة في المستوى الحضاري والاقتصادي، ثم إن طموح الإمبراطورية كان يتمثل في دوام السيطرة، بمعنى ترسيخ الرومنة بالحوض المتوسطي، وتحقيق سلام وحضارة متوسطية.
لقد كانت سياسة الرومان، خلال القرنين الأولين للميلاد، مبنية على مراقبة تحركات القبائل، ولاسيما منها تلك التي تعتمد في حياتها على الترحال، مثل قبائل الجيتوليين.
وقد تعذر على الرومان معرفة حدود ومجال تنقلات مثل هذه القبائل، وتعذرعليهم ضبطها بالطنجية، وأيضا بالسفوح الشمالبة للأطلس التلي بالقيصرية. وحسب أبحاث أثرية حديثة، فإن التأثير الروماني لم يتجاوز، في الجنوب، ممر تازة وهضبة سايس وزمور، وهو ما يتعارض مع ما ذكره الوزّان في كتابه، بل يضيف من أن تأثيرات بعض القادة الرومان وصلت إلى بلاد سجلماسة جنوبا، وأن مؤسس هذه المدينة "قائد روماني، ذهب من موريطانيا فاحتل نوميديا بأسرها، ثم ذهب شطر الغرب حتى ماسة، فبنى المدينة وسماها سِجِلُّوم ميسي، لأنها كانت آخر مدن دولة ماسة."( )
وفيما يخص التحديد المتداول، الذي يذكره عدد من المؤرخين القدامى، ويردده كذلك بعض الباحثين المعاصرين ، فإنه كان يعتمد بالأساس على مقاييس طوبوغرافية وطبيعية، هي:
- شرقا وجنوب-شرق: نهر ملوية بالطنجية، والسفوح الشمالية للأطلس التلي بالقيصرية.
- أقصى الغرب: السفوح الشمالية للأطلس المتوسط، ثم هضبة زمور.
أما بالنسبة لشرق موريطانيا ونوميديا، فإن المقاييس الطبيعية الحدودية كانت تقف عند السفوح الشمالية للأطلس الكبير وجنوب الحضنة، ثم شرقا عند جبال الأوراس. ونظرا لعدم الاستقرار السياسي بهذه الولايات الإفريقية، عمدت السلطة الرومانية إلى ضبط الحدود بحفر خنادق و تشييد أبراج، وتكثيف الحراسة بتجنيد مرتزقة لمواجهة الثوار الزاحفين من الجنوب، إذ أنشأ الرومان، بجهة سلا، عدة أبراج وأسوار لحماية جهازهم الدفاعي (fossatum)، الذي حُفر من أجل الحد من هجومات القبائل وثوراتها، ولاسيما منها قبيلتي البكوات والأوطولول في الغرب، وقبيلتي الجيتوليين والمازيس في الشرق.
لكن تلك الثورات لم تتوقف، بالرغم من مجهودات الجيش الروماني، وكان من بينها تلك التي بدأت مع أيد مون وثورته، مما يدل على أن المنطقة لم تخضع خضوعا تاما طيلة الوجود الروماني بإفريقيا.
والملاحظ أن الرومان لم يُنشئوا جهازا عسكريا قارا بموريطانيا الطنجية، مما كان يرغمهم على طلب المساعدات العسكرية باستمرار. وتتوج هذه التدخلات أحيانا بمعاهدات صلح مع زعماء إحدى القبائل الثائرة، كما تشهد على ذلك النقائش اللاتينية( ).