سيدي محمد الحراق
ومن أكابر أصحاب مولاي العربي والآخذين عنه، والذين تفرعت عنهم الطريق الدرقاوية، العلامة الأديب شيخ الطريقة ولسان الحقيقة الشريف أبو عبد الله سيدي محمد بن محمد الحراق العلمي الموسوي، ينتمي إلى سيدي الحاج موسى بن سيدي مشيش أخ مولاي عبد السلام رضي الله تعالى عنهم، كان أسلافه بمدينة شفشاون، وبها ولد فيما بين سن 1186 هجرية، ولا تزال دارهم معروفة لحد الساعة بشفشاون بالسويقة، ولا زال الزقاق يحمل إلى الآن اسم درب الحراق. وبهذه المدينة نشأ وحفظ القران الكريم، ثم اشتغل ببعض الحرف إلى أن جاوز العشرين من عمره، فانكب على قراءة العلم ببلده، ثم شد الرحلة لمدينة فاس ليلتحق بجامعة القرويين. ويقول مؤرخوه: أنه لما سافر لفاس لطلب العلم شق على أبويه فراقه، إذ كان واحد أبويه، فسافرا معه فأقاما هناك معه لمؤانسته حتى أتم دراسته وأصبح متفوقا على أقرانه في كثير من الفنون من تفسير وحديث وفقه وتصوف وأدب وغير ذلك. 1- انتقال الحراق لتطوان ومحنته وتصوفه: ولا ندري كم أقام بفاس ولا متى توفي أبواه، غير أن الذي نعرفه هو أنه لما كانت سنة ثلاثة وعشرين ومائتين وألف جدد أهالي تطوان الجامع الكبير، فبعثوا للسلطان المولى سليمان العلوي أن يرسل إليهم من فاس عالما ممتازا مرشحا عنده، يكون كمدرس بها ومعمر لها، فاستشار بعض كبار علماء فاس فأشير إليه باختيار صاحب الترجمة، ففي هذا التاريخ غادر مدينة فاس متوجها لمدينة تطوان حيث سيقضي باقي عمره، وحيث سيكون مضجعه ومرقده الأخير، وكان الشيخ إذ ذاك في عنفوان شبابه فوق الثلاثين من عمره، وهكذا قضت الأقدار أن يتخذ الشيخ الحراق تطوان مسكنا له لينشر فيها علمه ويقضي بها حياته. وبما أن الحراق كان جامعا لشتات العلوم ووجد بتطوان من ينافسه ويحسده من العلماء تآمروا عليه وبيتوا له مكيدة، كانت السبب في انقطاعه عن العلوم الظاهرة والاشتغال بالتصوف والانخراط في طريق القوم. فيذكر مؤرخوه أنه كان خطيبا بمسجد العيون والشيخ الحراق، هو ذلك الأديب الفصيح والشاعر المفلق والخطيب البليغ، فهال أمره حساده ولم يطيقوا الصبر على مظهر الحراق ومكانته العلمية، فاتفقوا مع قيمي المسجد بأن يدبروا حيلة حتى يدخلوا بيت الخطيب وقت خطبة الجمعة عاهرة جميلة مزينة، وفعلا وقع ذلك كما بيتوا وشهد على ذلك كل من كان حاضرا من مصلي الجمعة، واندهش الشيخ وتحير في هذه العملية المدبرة، فانصرف لمنزل ولزم الفراش ومرض مرضا أشرف به على الهلاك، ورفعت القضية للقاضي عبد الرحمن الحائك، وكان من خصومه الألداء ومنافسيه، ثم لقائد المدينة ثم للسلطان المولى سليمان، وكانت النتيجة أن يسلب الشيخ من جميع مناصبه ، الإمامة والخطابة والتدريس والفتوى، وأن لا يتعاطى شيئا مما كان له، وهذا ما كان يريده خصماؤه(خصومه) وحسدته. وفي هذه الفترة وهو ملازم داره مريضا من هذه النكبة قال: سبحان الله فما فائدة هذا العلم والجاه، الذي لا يوصل صاحبه إلى الله ولا يعرفه بمولاه، والله لئن عافاني الله لأدخلن في طريق القوم، ولألجأن إلى باب الكريم أناء الليل وأطراف النهار عسى أن يمنحني العلم النافع والفتح الواسع، فكان من الصدف أن جاءه جماعة من الفقراء الدرقاويين، فطلبوا منه أن يقرأ معهم بزاويتهم الحكم العطائية فشرع في ذلك، وكان مولاي العربي هو الآخر بعث بغلة مسرجة مع جماعة من أصحابه وأمرهم باتباعها أين تقف، وكان وقته بغمارة في عزاء تلميذه البوزيدي، وذلك سنة 1229 هجرية. فذهب الجماعة وراء البغلة إلى أن دخلت تطوان بباب الشيخ الحراق فطرقوا الباب، وخرج الخادم فاستأذنه وأخبره بالجماعة والبغلة، فخرج إليهم وسألهم عن أمرهم، فأخبروه بالواقع فركب البغلة، وذهب إلى أن وصلوا لغمارة فدخل على مولاي العربي فرحب به وفرح به غاية الفرح، وبمجرد ما اتصل به فتح الله عليه، وأفاض عليه من الأسرار والمعارف ما الله أعلم به، ولما قيل لمولاي العربي في ذلك قال: إن سيدي محمد الحراق جاء مزيت الفتيلة فأوقدناها له. وهكذا أصبح الحراق من كبار الصوفية بعد أن كان مع شهواته ينظر إلى عطفه معجبا بنفسه وعلمه، وباتصاله بالصوفي العظيم مولاي العربي وجد علاجه وذهب مرضه وداؤه وأصبح يغني بالحقائق الإلهية، ويدندن حول خالص التوحيد وينظم الشعر الرقيق، ويقول الأزجال حول الحضرة الإلهية والجناب النبوي الكريم حتى ترك لنا ثروة عظيمة في الشعر الصوفي الرقيق المؤثر، وقد جمع في ديوان خاص ظهر لعالم المطبوعات منذ زمان. وبعد تصوفه كان إخوانا وانحاش إليه جماعة ممن كانت لهم به ثقة، فصاروا يجتمعون في بعض دور الأصحاب وأحيانا يجتمعون بالمسجد الأعظم، فكان ذلك من الأسباب التي جعلته يؤسس زوايته الخالدة بباب المقابر لتكون موتلا للإخوان الصوفية ومقرا للدعوة إلى الله تعالى. وسيدي الحراق يعتبر من إخوان العارف ابن عجيبة والعارف سيدي أحمد بن عبد المؤمن الغماري وغيرهما، وإن كان ابن عجيبة اجتمع بالحراق قبل تصوفه، وقد رأى وحضر ما حصل لابن عجيبة وفقرائه من تلك المحنة، وكان الحراق إذا ذاك محايدا بينما كان علماء تطوان ضد ابن عجيبة حتى زج به وبإخوانه في السجن كما تقدم، ولكن التاريخ يعيد نفسه فقد قضى أن مات ابن عجيبة بعد فترة قليلة من المحنة ويعيش الحراق بعده مدة فيحاك له أيضا ما حيك لابن عجيبة، هذا لتصوفه وذاك لعمله ورئاسته. وهكذا فقد اصبح مولاي الحراق من الدعاة إلى طريق القوم المربين للمريدين المنقطعين إلى الله عز وجل، غير أن الشيخ الحراق لم يسلك الطريق كما سلكها ابن عجيبة من التجريد وتخريب الظاهر وخمل النفس على المشاق...والظاهر أن سبب ذلك هو تأهل الحراق للفتح واستعداده للحضرة الإلهية بذلك الحادث الذي حصل له، وما نزل به من الإنكسار واللجوء إلى الله بالإضطرار والله أعلم. ولذلك فقد كان الحراق بعيش عيشة المترفين حتى بعد تصوفه، فقد زاره مرة أخوه في الله وفي الشيخ العارف سيدي الحاج أحمد بن عبد المؤمن، فلما دخل عليه وجد ستورا ومتارب ووسائد وخدما ومنزلا أنيقا مشيدا فقال له: ما هذا يا سيدي محمد؟ فأجابه قائلا: ماءها ومرعاها والجنة وراءها. فقال له سيدي الحاج أحمد: لا يا سيدي محمد بل ماءها ومرعاها والحساب وراءها. ولكل مشرب، ومقامات أحباب الله وأوليائه كلها حلوة. هذا وقد أخذ عن سيدي محمد الحراق جماعة من أكابر تطوان وفاس والرباط، وبذلك انتشرت طريقته في سائر مدن المغرب. ولم يزل على حالته تلك حتى لحق بربه في شعبان سنة إحدى وستين ومائتين وألف ودفن بزاويته المشهورة بباب المقابر بتطوان، وترجمته واسعة جدا وأوسع ما هو مطبوع في ترجمته "النور البراق في ترجمته الشيخ محمد الحراق للأستاذ داود، اختصره من أصله للفقيه السيد محمد بن العربي الدلائي الرباطي المتوفى في سنة 1285 هجرية. عبد الله بن عبد القادرالتليدي: المطرب بمشاهير أولياء المغرب، دار الأمان، الطبعة الرابعة 2003، الرباط. ص:229-230-233-231.