الحاج محمد التهامي الحمري
حمدا لمن أعز العلم ورفع أهله، وكرم طالبه وعظم قدره، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، فكانوا هم الأولياء والأصفياء، وكتب لهم بين الناس ذكرا حسنا، ورسم لهم في قلوب الخلق وطنا، فعاشوا مع الأحياء وهم تحت التراب، وخلدوا ذكرهم بالتعليم والكتاب. عرف المغرب العديد من العلماء المقنيين الجماعين للعلوم، والبارعين في الكثير من الفنون، فمنذ أبي عمران الفاسي ت438، ومرورا بأبي الفضل القاضي عياض ت544، الذي قيل فيه" لولا عياض لما عرف المغرب"، ثم أبي علي علي اليوسي ت1102، و عبد القادر الفاسي وابنه ابي زيد عبد الرحمان الفاسي، وغيرهم من أنوار العلم وأبراج المعارف في المغرب الأقصى، ونجد من علماء القرن الثالث عشر شيخ القراءات الهمام وفارس العلوم المقدام، سيدي محمد التهامي الأوبيري الحمري ت1250. سنحت لي الفرصة اليوم أن ألتهم هذا السفر الماتع في جلسين : صباحية ومسائية، فتعرفت على مكانة هذا الصرح الشامخ و على هذا الفخر الباذخ، سيدي الحاج التهامي الاوبيري الحمري، فتنشقت عبق السرور، وشربت كأس الحبور. هذا الكتاب ترجم فيه مؤلفه المصطفى حمزة، للشيخ الحاج التهامي الاوبيري الحمري، وجعله في ثلاثة أبواب، قسم البابين الأولين إلى ثلاثة فصول، بينما جاء الباب الثالث في أربعة فصول، وصدره بمقدمة، وختمه بنتائج وخلاصات تركيبية. - الباب الاول في حياة الشيخ ونشأته ودراسته -الباب الثاني في رحلاته وشيوخه تلاميذه - الباب الثالث في مكانته العلمية وعلاقته بالمخزن وتصوفه وآثاره. بذل المؤلف جهدا في استقراء مواد الترجمة والرجوع الى مصادر المعلومات على قلتها، إذ صرح أنه لم تترجم له إلا ثلاثة مصادر : 1- اتحاف الخل المواطي بمناقب الإمام السكياطي، وللمترجم له ولايزال مخطوطا. 2- الاعلام ،التعاريجي المراكشي 3- السيف المسلول على من أنكر على رجراجة صحبة الرسول، عبد الله بن البشير الرجراجي. فما أسعفته المصادر بالتوسع فيه توسع واستفاض، وما قصرت التراجم عنه اكتفى بما وجد، ونلاحظ الايجاز في المرحلة الأولى من الطلب لما درس عند أبيه امبارك بن مسعود وفي تتلمذه على الشيخ عبد الله العجلي بالصويرة، ونلمس بعض الاستفاضة في مرحلة دراسة بابن يوسف بمراكش، ولكن نرى التوسع الجامع في مرحلة الدراسة بالقرويين بفاس وما بعدها ، حيث نقل ترجمة عشرين شيخا تلقى عنهم بفاس وتازة، والمدينة المنورة التي صحب فيها الشيخ الجيلالي بن المختار السباعي 1212، حكى عنه أنه كان يستحضر القاموس حفظا وإتقانا، وشارك في الجهاد بصعيد مصر ضد نابليون بونبارت. وتلقى التصوف والأذكار عن الشيخ الصوفي العارف سيدي أحمد بن علي الوزاني، وأجازه في دلائل الخيرات وأحزاب الشاذلي، وغيرها، وأخذ الطريقة الناصرية عن شيخه ورفيقه إلى الحج سيدي محمد بن عبد السلام الناصري صاحب كتاب "المزايا على ما أحدث من البدع في أم الزوايا"، ولقي بمصر الإمام الأميري الشيخ المالكية بالديار المصرية، والشيخ عبد السلام الشرقاوي شيخ الشافعية. ثم قفل إلى المغرب شهابا واريا من الدين، وبحرا زاخرا في العلم، فألقى عصى تسياره بمدرسة والده، وعكف على تدريس العلوم والإصلاح الاجتماعي ، فشاعت أنواره في رحاب القبيلة بل تعدتها إلى شمال المغرب وجنوبه، وأقبلت عليه زرفات من الطلبة ينهلون من معين علمه، ومنهم الشيخ المقرئ سيد الزوين 1311 صاحب المدرسة القرءانية بحوز مراكش، وسيدي عزوز بن أحمد الصديگي، والامير المولى إبراهيم بن المولى سليمان، والسلطان محمد بن عبد الرحمن بن هشام، وغيرهم، فقد كان يسكن مدرسته نحو 300طالب. اكتسب الشيخ وجاهة عند السلطان عبد الرحمن بن هشام فكان مقبول الشفاعة عنده، يجله ويبجله، فلما ثار حمير على عامله عليهم قبض عليهم السلطان وسجنهم ، فشفع فيه الشيخ مخاطبا السلطان: فرع النبوة بحر الفضل والكمل ** كل المكارم أمتك بلا خجل العفو قد أملوا حمير منك أمن ** غدت صنائعه كالشمس في الحمل امنن عليهم كما منّ الرسول على ** وفد هوازن مع ما كان من خلل فأجابه السلطان قابلا شفاعته ومعترفا بمكانته وعلمه: يا عالما أبدت القربى حنانته ** فجاء برائقات النظم بالمثل شفعت في حمير ترجو نجاتهم** والظلم منهم وليس من قبلي فالعفو شيمتنا والحلم سيرتنا** وراثة عن أبينا سيد الرسل وطال مقام الشيخ بزاويته بعد أن جال في حواضر المغرب والمشرق، فجلس للتأليف والتدريس، وله مؤلفات في مواضع شتى من فقه وتجويد وقراءات وتاريخ وعروض وأدب، وله قصيدة تسمى "التهامية" نسبة اليه صار فيه على بحر الشاطبية وقافيتها بيّن فيها كيفية الوقف على الهمز عند حمز وهشام ، وهي منظومة مشهورة عند طلاب القراءات. وفي الاخير نتوجه بالتحية والتقدير للأستاذ المصطفى حمزة على هذا المجهود العظيم، ونقبل رأس الشيخ الحاج التهامي الاوبيري الحمري تواضعا لعلمه وإكراما.